الجواب التفصيلي:
المحدَّث- بصیغة المفعول-: مَن تکلّمه الملائکة بلا نبوّة ولا رؤیة صورة، أو یلهم له ویلقى فی روعه شیء من العلم على وجه الإلهام والمکاشفة من المبدأ الأعلى، أو ینکت له فی قلبه من حقائق تخفى على غیره.
المحدّث بهذا المعنى ممن اتفق علیه الفریقان: الشیعة و السنّة، و لو کان هناک خلاف فإنّما هو فی مصداقه.
وقبل ذلک نجد المحدّث فی الأُمم السالفة؛ فهذا صاحب موسى کان محدّثاً، فقد أخبره عن مصیر السفینة و الغلام و الجدار على وجه جاء فی سورة الکهف[1] فهو لم یکن نبیّاً، و لکنّه کان عارفاً بما سیحدث، و قد عرفه بإحدى الطرق المذکورة. و هذه مریم البتول، کانت الملائکة تکلّمها و تحدّثها و لم تکن نبیّة، قال سبحانه:
و إذْ قالَتِ الملائکةُ یا مریمُ إنَّ اللَّهَ اصطَفاکِ و طَهَّرکِ و اصطَفاکِ على نساءِ العالَمین[2] و قال سبحانه: إذ قالَتِ الملائکةُ یا مریمُ إنّ اللَّهَ یبشِّرُکِ بِکَلِمةٍ منهُ اسمُهُ المسیحُ عِیسى ابنُ مریمَ وَجیهاً فی الدُّنیا والآخرةِ و مِنَ المُقرَّبِینَ[3] و هذه أُمّ موسى یلقى فی روعها و یوحى إلیها و لم تکن نبیّة، قال سبحانه:
وأوحینا إلى أُمّ موسى أنْ أرضِعیهِ فإذا خِفتِ عَلیهِ فَألقیهِ فی الیَمِّ ولا تخافی ولاتَحزنی إنّا رادُّوهُ إلَیکِ وجاعِلوهُ مِنَ المُرسَلین[4] وأمّا السنّة النبویة ففیها تصریح بأنّ فی الأُمّة الإسلامیة- نظیر الأُمم السالفة- رجالًا یکلّمون من دون أن یکونوا أنبیاء؛ و إلیک بعض هذه النصوص:
1- أخرج البخاری فی صحیحه عن أبی هریرة قال: قال النبیّ: «لقد کان فیمن کان قبلکم من بنی إسرائیل رجال یکلّمون من غیر أن یکونوا أنبیاء فإن یکن من أُمّتی منهم أحد فعمر بن الخطاب»[5] 2- أخرج البخاری عن أبی هریرة مرفوعاً «أنّه قد کان فیما مضى قبلکم من الأُمم محدّثون، إن کان فی أُمّتی هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب»[6] قال القسطلانی فی شرح الحدیث: یجری علىألسنتهم الصواب من غیر نبوّة.
وقال الخطّابی: یلقى الشیء فی روعه فکأنّه قد حُدّث به، یظنّ فیصیب، و یخطر الشیء بباله فیکون. وهی منزلة رفیعة من منازل الأولیاء[7] 3- أخرج مسلم فی صحیحه عن عائشة عن النبیّ صلى الله علیه و آله: «قد کان فی الأُمم قبلکم مُحدّثون فإن یکن فی أُمّتی منهم أحد فإنّ عمر بن الخطّاب منهم»، قال ابن وهب: تفسیر «محدّثون» ملهَمون.
قال النووی فی شرح صحیح مسلم: اختلف العلماء فی تفسیر المراد ب «محدَّثون» فقال ابن وهب: ملهَمون، وقیل: مصیبون إذا ظنّوا، فکأنّهم حدّثوا بشیء فظنّوه، وقیل تکلّمهم الملائکة، وجاء فی روایة «مکلَّمون» و قال البخاری: یجری الصواب على ألسنتهم، وفیه کرامات الأولیاء[8]
ومن راجع شروح الصحیحین یجد نظیر هذه الکلمات بوفرة؛ والرأی السائد فی تفسیر المحدّث هو تکلیم الملائکة أو الإلقاء فی الروع. هذا ما لدى السنّة.
روایات الشیعة حول المحدَّث:
و أمّا الشیعة، فعندهم أخبار عن أئمتهم تصرّح بأنّهم محدّثون وفی الوقت نفسه لیسوا بأنبیاء، فقد روى الکلینی فی باب الفرق بین الرسول والنبیّ والمحدّث أحادیث أربعة:
قال: «المحدّث الذی یسمع الصوت و لا یرى الصورة».
و فی روایة أُخرى: سألته عن الإمام ما منزلته؟ قال: «یسمع الصوت و لا یرى و لا یعاین الملک».
إلى غیر ذلک من الروایات المصرّحة بأنّ الأئمة الاثنی عشر و فاطمة الزّهراء محدَّثون[9] روى الصفّار فی بصائر الدرجات عن برید: قلت لأبی جعفر وأبی عبد اللَّه علیهما السلام: ما منزلتکم بمن تُشَبَّهون ممّن مضى؟ فقال: «کصاحب موسى و ذی القرنین کانا عالمین ولم یکونا نبیّین»[10] هذا ما لدى الفریقین. و لو اعتمدت الشیعة على علم الأئمة فلکونهم وارثین لعلم النبیّ، ووارثین لما عند علیّ من الکتب التی کتبها بإملاء من رسول اللَّه، أو محدَّثین تلقى فی روعهم الإجابات على الأسئلة، فلا یدلّ على أنّهم أنبیاء، و من نسبهم إلى تلک الفریة الشائنة بحجة إخبارهم عن الملاحم، فقد ضلّ عن سواء السبیل، و لم یفرّق بین النبوّة و الرسالة و التحدّث[11]